كتب _دكتور اشرف المهندس
قبل حرب 1967 كانت إسرائيل دولة صغيرة ناشئة لا تملك من السلاح و العتاد ما تملكه الدول العربية، و لكن بين حربي 1956 و 1967 حدث تغير كبير في موازين القوي العسكرية في المنطقة، هذا التغير تمثل في تحول إسرائيل إلي دولة تمتلك القنبلة الذرية.
دبفيد بن جوريون هو الأب السياسي للقنبلة الذرية الإسرائيلية. و هو الأب الرئيسي لقيام إسرائيل نفسها. رأس الوكالة اليهودية و قاد جيش الهاجانا في تحويل فلسطين إلي وطن ليهود العالم مستخدما كل السبل السياسية و الإرهابية للوصول إلي هدفه .
و بعد قيام إسرائيل عام 1948م أصبح بن جوريون رئيسا للوزراء في الفترة ما بين عام 1948 و حتي 1963، مع انقطاع فترة بسيطة سنتين 1954 و 1955.
رأي بن جوريون أن حصول إسرائيل علي السلاح النووي سيضمن لها تفوق كبير علي جيرانها العرب، و سيجبر أمريكا دائما أن تتدخل لصالح إسرائيل في أي حرب مع العرب حتي لا تصل إسرائيل إلي حد استخدام السلاح النووي.
و دافع بن جوريون عن حلمه في وجه معارضيه سواء داخل إسرائيل أو خارجها. فكثير من العلماء في إسرائيل وجهوا انتقادات حادة لهذا المشروع، منهم من رأي أنه غير أخلاقي، و آخرون رأوا أن إسرائيل لن تقوي علي تحمل تكاليفه الباهظة.
اختار بن جوريون لمعاونته في المشروع تلميذه النجيب شيمون بيريز الذي كان لا يقل حماساً عن بن جوريون نفسه، بالإضافة إلي عالم الكيمياء الألماني اليهودي ديفيد بيرجمان الذي يعد الأب العلمي للقنبلة الإسرائيلية.
ديفيد ارنست بيرجمان عالم كيميائي يهودي هاجر من المانيا النازية عام 1933م، و كان علي صلة وثيقة بحاييم وايزمان، العالم الكيميائي الذي سيصبح أول رئيس لإسرائيل
م1949، و انتقل معه إلي الولايات المتحدة، و بعد نهاية الحرب العالمية الثانية و قيام دولة إسرائيل انتقل برجمان مع وايزمان إلي هناك، و عمل في معهد وايزمان للأبحاث. ثم عينه بن جوريون مديرا لهيئة الطاقة الذرية في إسرائيل عام 1952م وضع له هدف واحد و هو تصنيع القنبلة الذرية الإسرائيلية.
أما الداعم الأكبر لمشروع إسرائيل النووي فكانت فرنسا، التي أدركت أهمية استقلالها عن أمريكا و بريطانيا سياسياً و عسكرياً، و بدأت وضع اللبنات الأولي لمشروعها النووي هي الأخري. و بدأ التعاون بين البلدين عام 1949م و شارك العلماء الإسرائيليين، و منهم بيرجمان، في إنشاء مفاعل فرنسا الأول القادر علي انتاج سلاح نووي،. و كانت براعة الإسرائيليين في برمجة الكمبيوتر هي مفتاحهم للمشاركة في هذه التجربة التي أثرت معرفتهم و أثقلت خبراتهم في مجال إنشاء المفاعلات النووية و عملية تخصيب اليورانيم.
و في عام 1953م اكتشف فريق العمل في معهد وايزمان للأبحاث طريقة جديدة لتصنيع الماء الثقيل، و باعت إسرائيل الاكتشاف لفرنسا مقابل 60 مليون فرانك و اتفاقية تعاون في مجال الأبحاث النووية بين البلدين.
كما كان هناك تعاون وثيق بين المخابرات الإسرائيلية و الفرنسية أثناء حروب الاستقلال في المغرب العربي، فكان الموساد يستغل وجود جاليات يهودية في المغرب العربي في ذلك الوقت في تجميع معلومات عن حركات المقاومة العربية و بيعها إلي فرنسا، مما وثق العلاقات بين البلدين، حتي تلاقت مصالحهم بشكل كبير في العدوان الثلاثي علي مصر 1956م.
و في اعقاب فشل العدوان الثلاثي عام 1956م، استطاعت إسرائيل أن تعقد الصفقة الرئيسية في سلسلة التعاون بين البلدين، و كانت هي موافقة إسرائيل علي الانسحاب من سيناء التي احتلتها في الحرب لتحل محلها قوات الامم المتحدة في مقابل موافقة فرنسا علي المساعدة في إنشاء مفاعل نووي لإنتاج أسلحة في صحراء النقب.
و بالفعل تم التعاقد مع الشركة الفرنسية التي بنت مفاعل Marcoule لتبني مفاعل ديمونة، و بدأ العمل فيه عام 1958م.
كانت أمريكا تراقب الوضع في المفاعل من بعيد، و كانت صور تجسس الأقمار الصناعية و صور طائرات المراقبة U2 تنقل العمل القائم في صحراء النقب، فكان كخلية النحل في قلب صحراء لا حراك فيها.
و لكن الإدارة الأمريكية بداية من ايزنهاور و حتي ليندون جونسون قررت أن تغض الطرف عما يحدث، و تتظاهر بعد المعرفة، لأنها لم تكن مستعدة للدخول في نزاع سياسي مع حليفتها الوحيدة في الشرق الأوسط إسرائيل، و تثير سخط الجالية اليهودية و اللوبي الصهيوني في أمريكا، في الوقت الذي كانت المساعدات السوفيتية تتدفق علي دول المواجهة و خاصة مصر و سوريا.
و لكن جون كنيدي ( 1961-1963) حاول أن يتخذ سياسة أخري. فقد حدث تقارب بينه و بين الرئيس جمال عبد الناصر و تبادل معه عدة رسائل شخصية. و بلغ تعاطف كنيدي مع مصر حداً
جعله يرسل إلي مصر أستاذ علم الاقتصاد في جامعة هارفارد إدوارد ماسون، الذي كان استاذا لكنيدي وقت الدراسة، ليدرس الوضع الاقتصادي فيها و يقترح حلولاً للحكومة المصرية للخروج من ازمتها الاقتصادية.
كان كنيدي يري أن مصر قد تتحول إلي صديق قوي لأمريكا، و بالتالي رفض نشاط إسرائيل النووي، و مارس ضعوط عديدة علي بن جوريون لإخضاع مفاعل ديمونة للتفتيش الدولي. و لكن بن جوريون تمسك بأكاذيبه أن المفاعل لإغراض سلمية فقط.
و عندما أصر كنيدي علي التفتيش و أرسل فريق من المفتشين الأمريكيين للمفاعل، كانت عملية التفتيش أقرب إلي مسرحية هزلية، فلم تشمل فحص قلب المفاعل لمعرفة قدرته الحقيقية، و وصل الأمر إلي أن الإسرائيليين قد أعدوا غرفة تحكم شكلية لزيارة المفتشين لإخفاء المؤشرات الحقيقية التي تثبت قدرة المفاعل علي إنتاج سلاح نووي.
و لا يمكن تصور أن يكون المفتشين الأمريكييين قد تعرضوا للخداع بهذه السهولة. و لكن النتيجة في النهاية أن تقارير لجنة التفتيش لم تثبت وجود سلاح نووي في ديمونة، و لكنها لم تثبت أيضاً عدم وجوده
و لكن القدر لم يمهل الرئيس الأمريكي الذي اغتيل عام 1963، و تولي نائبه ليندون جونسون الرئاسة و كان يكن تعاطفاً واضحاً لإسرائيل و حقها في الدفاع عن نفسها. و قام بوقف زيارات التفتيش الأمريكية سنة 1969م.
و في عام 1964م بدأ التشغيل التجريبي للمفاعل، و في عام 1968م كان مفاعل ديمونة يعمل بكامل قدرته في انتاج اسلحة ذرية إسرائيلية، بواقع 4 إلي 5 رأس نووي في السنة.
و عند قيام حرب 1973 كانت إسرائيل تمتلك حوالي 25 رأس نووي. وبالفعل بدأت تعده للاستخدام يوم 8 أكتوبر، بعد أن وجدت أنها علي وشك الانهيار. فقد خسرت في الأيام الثلاثة الاولي من الهجوم المصري حوالي 500 دبابة و 49 طائرة و انهار خط بارليف أمام الهجوم المصري و عبر الجيشين الثاني و الثالث بكامل اسلحتهم للضفة الشرقية، و فشل الهجوم المضاد الأول للإسرائيليين في صد الهجوم المصري.
و في اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي ليلة 8 أكتوبر برئاسة جولدا مائير، كانت كل التقارير تتحدث عن كارثة حقيقية، و بدأ يتمثل في الأذهان احتمال حدوث محرقة أخري لليهود مثل محرقة النازي. و صدر القرار بتجهيز ثلاث رؤوس نووية لتوجيهها نحو القاهرة و دمشق.
كان الغرض من هذا القرار أولاً الضغط علي أمريكا لتتدخل بإعادة تسليح الجيش الإسرائيلي و تعويضه عما فقد حتي لا تلجأ إسرائيل إلي استخدام السلاح النووي.
و السبب الثاني هو معرفة القيادة الإسرائيلية أن خبر تجهيز السلاح النووي سيتسرب إلي الاتحاد السوفيتي و بالتالي إلي مصر و سوريا، فتكتفي كل منهما بما حققته من انتصارات و لا تهاجم عمق إسرائيل.
أما السبب الثالث، فهو اللجوء إلي استخدام السلاح النووي التكتيكي في حالة فشل الهجوم المضاد الثاني لوقف الزحف المصري.
و عرضت جولدا مائير الذهاب إلي واشنطن بنفسها لحث الرئيس الأمريكي نيكسون علي الاسراع بتعويض إسرائيل بالأسلحة، و لكن وزير الخارجية الأمريكي كسينجر رفض ، لأنه اعتبر أن هذا طلب بهذا الشكل يدل علي “إما خوف هستيري أو ابتزاز”. و كان بالفعل أقرب إلي الابتزاز.
فقد تدفقت الأسلحة الأمريكية علي إسرائيل لتعويضها عن كل ما خسرت في الحرب بالإضافة إلي أسلحة متطورة جديدة ليس لها مثيل في ترسانة السلاح السوفيتي.
و تسرب خبر السلاح النووي إلي مصر. و بعد يوم 10 أكتوبر تحولت دفة الحرب لصالح إسرائيل بعد أن دفعت بأسلحة و ذخيرة هائلة معتمدة علي امدادات أمريكا المستمرة لها، و التي كانت تسلم في مطار العريش، حتي تدخلت القوتين العظميين في فرض وقف إطلاق النار و و افقت عليه مصر و إسرائيل في 22 أكتوبر 1973م.
في بداية الحرب كانت أمريكا علي استعداد لترك إسرائيل لتتلقي هزيمة محدودة تدفعها إلي التخلي عن موقفها المتعجرف و العنيد و التحول إلي الرغبة في الصلح و السلام مع العرب، و لكن التهديد الإسرائيلي باستخدام السلاح النووي اجبر أمريكا علي الدخول بكامل قوتها لدعم إسرائيل. لأنها لم تكن ترغب في قيام حرب نووية مع الاتحاد السوفيتي إذا ما قرر الأخير التدخل نووياً لصالح مصر و سوريا.
و ظل مفاعل ديمونة كأنه شبح تخشي الصحافة من مجرد الحديث عنه، حتي اخترقت جريدة السانداي تايمز البريطانية هذا الصمت العجيب بسبق صحفي كبير عام 1986م عندما نشرت مقابلة مع أحد الفنيين الذي عمل في مفاعل ديمونة لمدة 8 سنوات، موردخاي فعنونو.
موردخاي فعنونو، إسرائيلي من أصل مغربي، استطاع أثناء عمله في المفاعل أن يجمع معلومات كبيرة عنه و عن تصنيع الأسلحة النووية، و قام في غفلة من أجهزة المراقبة، بتصوير مواقع مهمة و حساسة في المفاعل.
كان موردخاي متعاطف مع القضية العربية و كان يري خطورة الترسانة النووية الرهيبة التي تملكها إسرائيل علي السلام في الشرق الأوسط، كما كان يعاني من ممارسات عنصرية في المجتمع الإسرائيلي بسبب أصوله الشرقية، فهرب إلي بريطانيا و أفشي بكل معلوماته لجريدة السانداي.
تبين من معلومات فعنونو أن إسرائيل كانت تشغل مفاعل ديمونة بكامل طاقته لانتاج ما بين 4 إلي 5 رؤوس نووية في السنة. و أنها لديها ترسانة هائلة من السلاح النووي الجاهز للتجميع. كما أنها توصلت أيضاً إلي انتاج رؤوس نووية صغيرة الحجم يمكن تهريبها في حقيبة أوراق صغيرة.
و كانت معلومات فعنونو هي أقصي ما تم نشره إعلاميا عن مفاعل ديمونة حتي يومنا هذا.
و يمكن تلخيص أهم العوامل التي ساعدت إسرائيل للوصول إلي تصنيع القنبلة النووية في النقاط التالية:
بن جوريون، و ما تمتع به من بعد نظر و استغلال للفرص و الإصرار علي تحقيق الأهداف.
تعاطف اوروبا مع إسرائيل نتيجة محارق النازي لليهود في الحرب العاليمة الثانية التي كانت ماثلة في الأذهان، و بالتالي تقديم المساعدة العلمية و الاقتصادية ليتمكن اليهود من الدفاع عن أنفسهم من “محارق جديدة قد تحدث علي يد العرب”
استغلال إسرائيل للعقول العلمية اليهودية التي هاجرت من اوروبا و خاصة ألمانيا و شاركت في بناء القنبلة الذرية الأمريكية. و من أجل ذلك، قامت إسرائيل بإنشاء بنية تحتية علمية في فلسطين حتي قبل قيام دولة إسرائيل و أهمها معهد وايزمان للأبحاث الذي أنشيء عام 1934م ، و عمل علي تجميع العلماء اليهود من أوروبا للعمل في البحث العلمي في
اللوبي اليهودي في أمريكا الذي كان يتكون من أثرياء يهود يؤمنون بقضية إسرائيل و يقدمون الدعم المالي للحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة في مقابل دعم إسرائيل سياسياً و اقتصادياً و علمياً.
عمل استخبراتي عال المستوي يوظف الجاليات اليهودية في دول العالم للحصول علي مكاسب و صفقات سياسية و عسكرية.
و في النهاية فإن السلاح النووي و إن كان غير أخلاقي، لأنه يستهدف المدنيين بالأساس، إلا أنه لا غني عنه لخلق مبدأ الردع الإستراتيجي في لعبة موازين القوي في الشرق الأوسط.
و الحقيقة أن مصر كان لديها فرصة أن يكون لها مشروعها النووي و تسبق إسرائيل بعشر سنوات علي الأقل، لو كانت دعوة العالم د.علي مصطفي مشرفة في اربعينيات القرن العشرين للدخول في تطبيقات الطاقة الذرية قد وجدت أذن واعية لدي الساسة و الحكام في ذلك الوقت.
و كانت مصر وقتها تملك العقول العلمية للبدء في هذا المشروع متمثلة في د. علي مشرفة و تلميذته عالمة الذرة النابغة سميرة موسي. و لكن الساسة في مصر لم يفطنوا إلي هذه الفرصة التي لو استغلت لربما حالت دون انتكاسات سياسية و عسكرية كثيرة لمصر في القرن العشرين.